بل هو “الحُرّ” ٣٢ . الأستاذ أشرف إحسان فقيه

قراءة لكتاب (السجين ٣٢ : أحلام محمد سعيد طيّب وهزائمه)

المصدر : تدوينة أشرف

الأستاذ / أشرف إحسان فقيه

هناك قيمة فارقة، لفتتني أكثر من غيرها، في الاستعراض الذي ساقه بكل حرفنة أحمد عدنان لمحطات من حياة محمد سعيد طيّب. فهو يواجهك بترسانة من الأسماء.. ويربط لك هذه الأسماء بالحاضر عبر وشائج الدم. سيحدثك مثلاً عن الكاتب والناشر أحمد عبيد وسيكشف لك أنه والد د. ثريا عبيد. وعن الصحفي والرائد الاجتماعي عبد الرزاق بليلة الذي هو والد د. مازن بليلة، وعبد الرحمن المنصور الشاعر ووالد المخرجة هيفاء المنصور. وعن الأكاديمي والمربي د. صالح أمبا وهو والد الصحافية الشهيرة فايزة أمبا. وهذا “الربط” يمثل في نظري القيمة الجوهرية الكبرى لذكريات أبي الشيماء التي استخلصها منه أحمد عدنان. فالكتاب وإن كان يقع في خانة السيرة الذاتية والتأريخ السياسي لفترة مزوية من عمر البلاد، إلا أنه يجابهك بحقيقة مفادها أن الحاضر ليس بمعزل عن الماضي

 

ولا بذاك التباين عنه. ليست هناك لحظة عبقرية وُلد فيها السعودي هكذا رغماً عن السياق. الفكر والحضارة والحراك الاجتماعي والثقافي ليست وليدة طفرة ولا برميل نفط. بل إن هذه المملكة برجالاتها وأفكارها وأحلامها عرفت سلسالاً متصلاً من البيوتات والأسر التي بنت مجدها عبر طول البلاد وعرضها.. وفي الحجاز تحديداً وبالذات وحتماً. وهؤلاء ما فتئوا يمدون المشهد بالأسماء المؤثرة والمثيرة للجدل. قد نختلف في تقييم ذلك التأثير.. لكنه يظل موجوداً وفارضاً لذاته. وأحمد عدنان يخدم جيلي بكتابه هذا خدمة عظيمة حين يكثّف ذلك الماضي وتلك الريادة الحجازية في شخص وتاريخ محمد سعيد طيّب الباهرين، ويوفر لنا فرصة ذهبية وبالوثائق كي نربط بين تلك المراحل العائمة في بحار التعتيم كجزر تبدو منفصلة معزولة لأول وهلة.

ذلك الربط بين الماضي والحاضر هو في صميم طرح الكتاب الذي وصلني بإهداء كريم من مؤلفه، وفي تذكيره بحلزونية لعبة التاريخ التي تدور في دوائر متكررة فلا يمثل حدث بعينه جديداً مطلقاً. النضال الإصلاحي الذي هو أساس قصة أبي الشيماء، هو مطلب قديم ليس مرتهناً بوعي شباب اليوم بالذات ولا مدفوعاً بمتغيرات معاصرة أبداً. كل ما نسمعه اليوم من مطالب “جريئة” ابتداءاً بصحافة أكثر استقلالاً مروراً بفصل السلطات ومجلس الشورى المنتخب وانتهاءاً بالملكية الدستورية هي كلها مطالب نوقشت وطرحت قبل خمسين وستين سنة. الذي اختلف هو تفاوت حدتيّ طرحها ورفضها. لا شيء ينبت من فراغ ولا السعودية كانت استثناء قصياً عن السياق العربي. ولا يقظة جديدة في الواقع بل هي يقظات متجددة. ومحمد سعيد طيب يمثل حالة فريدة عبرها.

وقد يبدو من قبيل المبالغة أن أتغنى بعظمة الرعيل الأول من مثقفي ورواد الحجاز ممن عاصرهم الطيّب، لاسيما وأن ذلك الجيل “الفذ” هو المسؤول عن بدايات مؤسسات الدولة البيروقراطية والتي لا تسر مآلاتها اليوم كثيراً. فكيف يتفق أن يفشل أفذاذ ذاك الجيل في إنشاء جهاز حكومي تنفيذي فذّ بدوره؟ ألا يستحقون اللوم على خيبات اليوم؟ أعتقد أن هذه الإجابة يجدر أن يقدمها أبناء ذاك الرعيل بناءاً على شهاداتهم التي تظل حبيسة الصدور. وكتاب (السجين ٣٢) يقدم لنا قبساً من التبرير حين يتطرق لرحلة الطيب القصيرة مع العمل الحكومي تحت إمرة أحد رموز المرحلة: وزير المواصلات الأسبق والأديب محمد عمر توفيق. وسأسرد هنا نصاً كما أورده أحمد عدنان نقلاً عن الطيّب في صفحة  ٩٢ من الكتاب:

في ليلة بعد أن عرضتُ المعاملات الرسمية على الوزير قلت له: “يا أستاذ.. عندي طلب وأرجو أن تحققه. أرغب في إكمال دراستي العليا وقد حصلت على القبول في الولايات المتحدة”… فاستعجب الوزير وقال لي: “أنت رجل ناضج ولا تحتاج السفر وأنا أفكر في ترشيحك لمنصب وكيل الوزارة”. فرددت عليه: “شاكر ومقدر لثقتك، لكن كل المعاملات التي أعمل عليها لم ينجز منها شيء… وليس من العدل إهدار طاقتي في مزيج من مخاطبات من نوعية: إشارة إلى خطابكم، أفيدونا”، وهنا انفعل الوزير وقال: “وهل أنا من يتحمل هذا؟! أنا من كنت أقرأ أعظم ترجمات الفكر الإنساني، تتحول حياتي إلى هذا (العَك) : (نشير إلى خطابكم، أفيدونا)”، ثم اعترته موجة من الانفعال الشديد وبدأ يلقي المعاملات التي على مكتبه على الأرض وفي كل الاتجاهات، وكنت أقوم بلملمتها.

بطبيعة الحال، فإن أهمية الكتاب القصوى تكمن في تأريخه لجزء مهم من سيرة النشاط السياسي بالسعودية عبر فصول من حياة أبي الشيماء. وقصة سعيد طيب لا تمثل كامل تلك السيرة حتماً، لكنها تُلم بكثير من أجزائها لاسيما وأنه شهد معظم فصولها. منذ الستينات وحتى آخر بيان إصلاحي وّقعه الطيب في ٢٠١١.

أستطيع أن أقول بكل ثقة أن هذا الكتاب يمثل أهم إصدار سعودي على الإطلاق خلال العام.. بل البضعة أعوام الفائتة. وذلك لعدة أسباب: فهو أولاً يتطرق كما أسلفت لتاريخ من العمل السياسي، ومن تاريخ السعودية ذاتها، مُهمل وحافل بالتفاصيل المفاجئة. وهو ثانياً يتعامل مع هذه المادة بكل حِرفية وإبداع، وبدقة توثيقية وإحالات تقارب الكمال في تفصيلها. وإذا كانت كاريزما سعيد طيّب قد أضفت حضورها على المادة والأحداث، فإن المؤلف أحمد عدنان قد فرض نفسه نجماً حقيقياً عبر صياغته للمادة بكل اقتدار. فكشف نفسه هنا أديباً حقيقياً وصحافياً محترفاً ومؤرخاً قديراً. لأنه قادنا عبر إجابات الطيّب على أسئلته وعبر المقالات التي كتبها هو لجريدة الأخبار اللبنانية -تنبأتُ مبكراً بأن تصدر في كتاب- وأيضاً عبر شهادات المعاصرين والوثائق والبيانات التي تؤرخ للمرحلة. ووضب كل هذه المواد المتنافرة بطبيعتها ليخرج لنا بوثيقة دسمة وماتعة لأقصى حد أمكنني أن أجهز عليها خلال يومين اثنين. وسأكرر بأن مادة الكتاب تمثل بذرة واعدة كذلك لمشروع (موسوعة أعلام الحجاز في القرن العشرين).. إن كان لي أن أتنبأ مجدداً!

عبقرية أحمد عدنان في الصياغة تتجلى ناصعة في قدرته على نقل أفكار وفلسفة سعيد طيّب، أحزانه ومرارات هزائمه بكل شفافية ودقة، حتى لتخال أنك ترافقه خلال سنواته الخمس في الزنزانة ٣٢ والأحداث الكبرى تمر على الأمة بدون أن يدري عنها. وأنك تسمع قعقعة الأغلال في قدميه وصلف الجلادين الذين توالوا عليه هو وباقر الشماسي ومحمد العلي وطاهر الفاسي وسواهم. ستستشعر خيبات جيل الطيّب وستحيا آماله التي عقدها بعدما خرج من حبسه الأول على مشروعه التنويري الرائد: تهامة، والذي أوفاه المؤلف حقه من تسليط الضوء ووجه دعوة مفتوحة للبحاثة كي يستكملوا استكشافه. ومن خلال استدرار ذكريات أبي الشيماء، ستندهش من موقفه المبكر ضد أدعياء الثقافة من صيادي المناصب والذين لا يقل نضاله ضدهم أهمية عن نضاله السياسي. سيقدم لك أحمد عدنان نماذج مبهرة لرجال ظننت أنهم لا يوجدون إلا في حكايات السلف. أتوقف هنا تحديداً عند قصة الأديب العظيم عبد الله عبد الجبار وشيك الخمسة ملايين ريال. ومواقف أخرى كثيرة عاشها الطيب وأنداده مع ملوك وأمراء وضباط مباحث ووجهاء ومثقفين. قصص تتضافر روعتها وعظمتها مع خيبات اليوم لتجعلك تحس بمرارة هزائم الطيّب وتعيش أحلامه مجدداً كما عاشها هو خلال سبعة عقود من عمره المفعم بالأمل والعمل.

قد يكون أبو الشيماء قضى ردحاً معتبراً من حياته سجيناً أو مراقباً أو ممنوعاً من السفر.. لكنه ضرب لنا أمثلة لا تنتهي، بدون تحزّب ولا تحيّز تياري، في معاني الحريّة والوطنية والإصرار. وهذه القيمة الأخيرة هامة جداً. لأني بعد الفراغ من قراءة أحلام محمد سعيد طيّب وهزائمه قد توصلت لاستنتاج مؤلم، فكثير من أحلام الطيّب ما تزال أحلامنا نحن كذلك.. ولعل هذه تمثل إحدى أقسى هزائمه!