المصدر : جريدة الوطن
الأستاذ / عبدالمحسن هلال
فجر الأربعاء الماضي كنتُ على متن الطائرة المتّجهة إلى القاهرة، أخذتُ مقعدي، وفضّلت النوم استعدادًا ليوم حافل ينتظرني، طلبتُ من المضيفة عدم إيقاظي لتناول الإفطار، وبالفعل بعد لحظات من الإقلاع كنتُ قد غفوتُ. لامست عجلات الطائرة أرض المطار، واهتززتُ في مكاني، غير أني استمرأتُ الغفوةَ حتى تتوقف الطائرة، فجأة -وبدون مقدّمات- دوّت “زغرودة” مجلجلة، أطلقتها إحدى الراكبات فرحًا بالعودة بعد أداء العمرة، وبرغم أن صاحبتها كانت على بُعد صفوف مني، لكنّ حدّة الصوت بلغت -دون شك- تسع درجات على مقياس ريختر للزلازل، وعشرين (ديسبل) على جهاز قياس الضوضاء، تطايرت آخر
قطرات النعاس من عيني، ونهضت أجمع أجزائي المكسّرة، وأحاول تعديل هندامي.
خرجتُ من المطار مع تنفّس أول ضوء للصبح، وأخذتُ أول سيارة أجرة رأيتها، كنتُ أمنّي النّفس بالنوم حتى وصول الفندق، لكن مخدوع مَن يُصدِّق أنه يمكنه النوم مع سائق أجرة، بالخصوص إذا كان مصريًّا، لا تعرف كيف تتوالد عذوبة الكلام على شفاههم، بدأ الحديث عن سوء الأحوال لتعطّل السياحة، وعمل بعض المصانع بسبب المظاهرات والإضرابات التي شهدتها مصر خلال الشهرين الماضيين، وطالب بتوقّفها للمصلحة الاقتصادية العامة، قلت له: إن مصر حتى وإن توقفت عجلة اقتصادها اليوم بالكامل، فإنها تكسب يوميًّا مئات الملايين بعد أن ذهب كل مَن كان يسرق هذه الملايين إلى السجن، وافقني على مضض، غير أنه واصل شكواه من نقص عدد السيّاح، ومن المظاهرات الفئوية التي تكاد تطيح بالاقتصاد.
الهدف الرئيس لسفري حضور مناسبة ثقافية بمقر نقابة الصحفيين بالقاهرة، والاجتماع بزملاء زمان من مثقفي مصر، وبالطبع هناك دومًا أشياء عدّة تغريك بزيارة مصر، ليس أقلها زيارة مدبولي. أمّا المناسبة فكانت مناقشة كتاب الصحفي المشاغب أحمد عدنان عن أحلام وأحزان الأستاذ محمد سعيد طيب، “السجين رقم 32”، وهو الكتاب الذي بِيعت نسخٌ كثيرة منه في معرض الكتاب الأخير بالرياض، ثم اختفى من الأسواق، كتاب يستحق مراجعة جادّة، إذ يُعتبر مرجعًا في النشاط السياسي في تاريخ المملكة، وستكون لي عودة إليه بإذن الله. أمّا لقاء المثقفين المصريين فحدّث ولا حرج، فمن طبيعة المثقفين الاختلاف في الآراء، بعضهم يعدّها ميزةً، وآخرون يعتبرونها نقمةً. سأترك نقاش المثقفين، فأنتم تقرأونه كل يوم، وآخذكم لسماع الناس البسطاء من عامة الشعب. بعد نهاية المناقشة تأهبتُ للعودة لفندقي، أخّرني أحدهم بإثارة مشكلة طرد مليون ونصف من رجال الأمن على معدل البطالة المتفاقم، كان الجواب أنها عطالة مؤقتة، لكن لفتتني تكملة الجواب بأن وضعهم السابق كان غير طبيعي، إذ كيف يصح في أي بلد أن يبلغ تعداد رجال الأمن، حماة النظام، مليونًا ونصف، بينما رجال الجيش، حماة الوطن، لا يصل إلى ثلث المليون؟
غادرتُ قبيل منتصف الليل لرغبتي في النوم بسبب إرهاق اليوم السابق، قذفتُ بنفسي في أول سيارة أجرة رأيتها، سألني السائق -وقد رآني خارجًا من المبنى- إن كنت أعمل بالنقابة، أجبتُ، بل مجرد ضيف أجنبي، سألني ثانية: وأنت تصدّق كلام الجرايد، ونفاق الصحفيين؟ توقّعت نقاشًا مختلفًا، فقلتُ قاصدًا استفزازه: أليس المثقفون هم ضمير الأمة الحيّ؟ قاطعني: الضمير الغائب، أو المستتر، بل الميت يا فندم، كتمتُ ضحكتي، لكني لم أستغرب أن يناقشني سائق أجرة في القاهرة عن خيانة المثقفين، معظمهم خريجو جامعات عاطلون، هل شاهدتم يوتيوب السبّاك المصري الذي حلل الثورة المصرية أفضل من خبراء العلوم السياسية؟ فتح السائق شهيتي للسماع، فقلت معاندًا: ألا يكفي تغيير رؤساء تحرير صحف النظام المخلوع، وإقالة وزير الثقافة السابق؟ ماذا تريد أكثر؟ بكلمة واحدة رد: محاكمتهم، ثم استطرد هؤلاء هم مَن يفرعن فرعون هنا وهناك، هؤلاء هم سبب نكساتنا، وانكساراتنا العربية، هؤلاء هم مزوّرو الثقافة، ومسطحو الوعي، أنسيت أن رئيس النقابة السابق كان طبّالاً لنظام مبارك المخلوع، وأن رئاسة اتحاد الصحفيين العرب كرّمت بن علي تونس بوسام، سألته مجددًا: هل تريد إلغاء الإعلام الرسمي؟ أجاب: (ياريت والله يا بيه، يخلّوه قطاع خاص زي بقية دول العالم)، قلت: القطاع الخاص سيأكلنا، أجاب ببديهة مصرية لا تُجارى: (دول مش زي الحكومة، دول ما لهمش سنان)! انتهينا إلى الفندق، ولم ينتهِ نقاشنا، مَن يستطيع إقناع مصريٍّ؟!
حديث السائق الذي أعادني إلى المطار كان مختلفًا، يعمل دكتور أشعة بمستشفى، اضطره راتبه الضئيل العمل سائقًا لتربية أبنائه الخمسة، حدّثني عن آثار البطالة المدمّرة، وأن كثيرًا من أصحاب الشهادات العليا والمهنيين المهرة أصبحوا روّاد سجون، ومتعاطي مخدرات، وأصحاب سوابق؛ بسبب البطالة. شرّق بنا الحديث وغرّب، ثم صمتنا لسماع أقوال الصحف من المذياع، فإذا بمقال في النيويورك تايمز يذكر أن السلطات الأمريكية كانت وراء تمويل الربيع العربي، ونشطاء ثورات مصر وتونس، انفجر الدكتور السائق قائلاً: لو بحثت أمريكا بشمعة عمّن يخدم مخططاتها فلن تجد أفضل من المخلوعين، أو الذين سيُخلعون، بل إنها فوجئت بوعي شبابنا الذي جاهدت سنينا لتخريبه بفنها الهابط، وافقته ثم سألته عن دور مصر العربي.. هل سيعود؟ تنهّد، ثم أجاب: ليس قبل جيل كامل، يجب أولاً إحداث نهضة عربية شاملة، كتلك التي حدثت أيام محمد علي، قلت: ذلك يتطلب وجودًا عربيًّا قويًّا في مصر، مثل الذي حدث أيام النهضة الأولى، وأحضر أقطاب العرب إلى مصر، فنشأت الصحافة، والمسرح، وانتشر الوعي، يجب أن تتحقق شروط عودة مصر “قلب العروبة النابض” بكسر قيودها الخارجية المخلّة بالتزاماتها العربية، نظر إليَّ بحسرة وقال: ذلك يحتاج جيلين، صحتُ فيه، وأنا أودّعه: تفاءل يا رجل.