المصدر : مدونة هالة الدوسري
السجن ليس فقط ذلك الحصار الفيزيائي الذي يمنع عنك تفاصيل الحياة و يعزلك عن كل من و ما تحب، السجن هو أن تعلم أنك تعيش “في سجن كبير” و أنك لا تستطيع أن تهرب منه، الفرق حدود السجن فقط، سجنك الكبير سيصبح أصغر كلما ازددت مقاومة و رفضا، عالمك ذاته مصمّم كسجن، يملك سجّانوك المسجد و المدرسة و الجريدة و التلفزيون و الوظيفة و القانون و المحكمة، يملكون القبيلة التي ستتبرأ منك و تنبذك، و يملكون نقلك بين سجنك الصغير و الكبير كلما أوقفت رفضك و مقاومتك و أعلنت عجزك اليائس…
“إن أردت أن تقتل شيئا فلا تفعل أكثر من عزله و محاصرته”: تقول ايلف شفك عن جدتها التي تعالج الناس بمحاصرة الأرواح الخبيثة و الأوجاع و تركها وحيدة منبوذة حتى تموت… إن لم يقتلك الحصار و العزلة فلأنك تملك تشبثا بالحياة لم يمت بعد…
السؤال الذي لا يراوح عقلك عند مشاهدة وحشية العسكر و السلطة في مواجهة المقاومين في ساحات الربيع العربي: في ميدان التحرير و دوّار الإرادة و ساحة التغيير و دوّار اللؤلؤة: ماذا يمكن أن يحدث إن قاوم مواطن بسيط السلطة؟ هل تشفع له سلميته؟… ماذا يمكن أن يكون ثمن حلمك المشروع في عدالة اجتماعية و دستور و إعلام حر و مسؤلين منتخبين يمكن مساءلتهم بلا قيود؟ ماهو ثمن خطاب مطالبة تكتبه أو توقّع عليه لمن يملك الأمر؟…
“السجين 32″ يمنح القاريء فرصة لاختبار واقعية هذه الأسئلة، النضال قديم يسبق عمر السجين “محمد سعيد طيب”، و الحلم المشروع الذي لم يتحقق بعد برغم هذه الرحلة الممتدة عبر عدة عقود…
يقع الكتاب في 400 صفحة تقريبا و اثني عشر فصلا بخلاف الملحقات و الهوامش، حواشي الكتاب تقدم إضافة ثمينة للتنقيب في خلفيات الأحداث و الشخصيات تاريخيا … يسجل كتاب “السجين 32″ تاريخا لم يبارح كثيرا قلوب الرجال، في صفحاته الأولى لمحات من مكة و حاراتها و صناعة الرجال في الحجاز القديم، هناك قصة يوردها لقاض يعاقب و يوبّخ وجيها لتعاليه على خادم يمني، يلهم القاضي الحجازي بعدالته محمد سعيد طيب “السجين 32″ لحلم دراسة القانون بعد عقود، تنقلك الحكايات الأولى لمدارس الحجاز القديمة: الرحمانية و الثغر و سواها، و تندهش و أنت معاصر للألفية الثانية من حضور الأدب و الفن و السينما في المقرر الدراسي… و تتأكد من مكانة العلم بين الحجازيين حين أنشؤوا جامعتهم الأهلية قبل سنوات عديدة من وصول التعليم العالي الحكومي في المنطقة… رجال الفترة يمرون على الصفحات أمام ناظريك في لمحات سريعة تكشف الكثير… أمير المنطقة الذي لا يحب من “يخصره” إن طلب إخلاء عقار، أمسيات الاحتفاء برجال الأدب، محمد علي حافظ يدعو في مقال له في بداية الستينات للتوزيع العادل للموارد بين المناطق لأن “جدة تستاهل”، اجتماع الفكر و الثقافة في مجلس الثلاثاء… ثم بزوغ الثورة الناصرية و حلم القومية العربية الذي جعل طيب المقاوم الشاب –وقتها- ينضم لحزب الجبهة العربية لتحرير الجزيرة العربية- في القاهرة…
يحملنا الباب الثاني للمحنة السياسية الأولى في حياة السجين عام 1964 بسبب قرار انضمامه لجبهة التحرير، و يرسم الكاتب المشهد السياسي السعودي وقتها عبر أول اقتراح مقدّم من الكاتب عزيز ضياء لإنشاء نظام للحكم و لجنة لمشروع القضاء، و يتطرق لمقال منشور لمحمد سعيد طيب يطالب فيه بمجلس شورى منتخب بعد وعد الأمير فيصل بإرساء نظام للحكم، يعلّل الكاتب حالة الانفتاح السياسي وقتها برغبة الملك فيصل بكسب النخب الفكرية و فرز توجهاتها السياسية في الوقت نفسه، و ما تلا ذلك في العام 1964 من اعتقال 70 مواطنا من المدن الرئيسية الثلاث من مختلف التيارات، كما يسرد الكاتب شهادات قيّمة منقولة عن أبرز معتقلي تلك الفترة: محمد سعيد طيب و باقر الشماسي تشمل تفاصيل اعتقالهم و محاكمتهم و أسماء المسؤولين في ذلك الوقت… تبدو الكتابة و التوثيق هنا كرد فعل لتحقيق عدالة غائبة ولو بعد حين…
الباب الثالث يتناول تجربة محمد سعيد طيب الأولى في السفر خارج المملكة و منها ابتعاثه القصير لأمريكا، و تستعرض بعض الانعكاسات الشخصية حول أحداث المرحلة كالنكسة و وفاة معلمه محمد فدا و أول حضورله لحفلة لأم كلثوم و الحياة الطلابية للسعوديين في أمريكا و غلبة القضية الفلسطينية وقتها على النشاط الطلابي…
يسرد الباب الرابع المحنة الأولى الحقيقية في حياة محمد سعيد طيب: سنوات الألم و العزلة التي خرج منها لا يعرف المشي… كانت البداية في اعتقاله عام 1969 أثناء أول إجازة دراسية له في الوطن، و يظهر اسم عبد العزيز مسعود مدير عام المباحث وقتها بالمملكة في مشهد بليغ يرفض فيه توجيه اتهام رسمي للسجين: “لو حللوك لوجدوا كل خلية فيك تكن العداء لهذا النظام، أنت لست في حاجة لاتهام و لن يوجه لك اتهام و لن تحاكم” و هذا ما كان، اعتقل طيب مع مئات غيره في تلك الفترة، و يعرض الكاتب لتفاصيل تعذيبه أثناء الاعتقال و منها حرمانه من النوم لثلاثة أيام متواصلة لتوقيع اعتراف، و يعرض الكتاب أيضا لقصص بعض سجناء المرحلة و أسباب اعتقالهم، و يورد جملة لطيفة على لسان طيب غالبا ما تتكرر في سير المعتقلين السياسيين: “لم أفكر بالانتحار أبدا و كنت أقول لهم إذا لم تتخلصوا مني فلن أتخلص من حياتي”… يظهر في نهاية الباب تحليل قيّم عن رؤية طيب لإيجابيات و سلبيات الحكم في عهود الملك فيصل و سعود و خالد، و ينتهي الفصل بعبارة طريفة من السجّان عبد العزيز مسعود لطيب في لقاء لهما بعد الإفراج عنه “روح… الله لا يردّك”…
يستعرض الباب الخامس تجربة محمد سعيد طيب في إنشاء تهامة و تصدرها للمشهد الثقافي الوطني عبر عقود مع الوزارات الرسمية و الهيئات المختلفة، و يكشف فيه طيب عبر لقاءاته الاجتماعية المختلفة وجوها متعددة لرجال المرحلة كوزير الإعلام السابق علي الشاعر و سلفه جميل الحجيلان ووزير المالية محمد أبا الخيل، كما تأسر القاريء قصة الأديب النبيل عبدالله عبد الجبار صاحب سلسلة “التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية” و رفضه لشيك الخمسة مليون ريال الذي لم يصرف أبدا برغم حاجته…
تحت مسمى: “يستدعى بصفة خاصة” يتطرق الباب السادس إلى مقال منشور لمحمد سعيد طيب في مجلة المجلة عام 1984 حول خطورة المثقفون المزيفون على العلاقة بين الحاكم و الناس، كما يتطرق إلى أصداء المقال على القيادة السياسية في عهد الملك فهد وقتها، و يسرد آراء طيب حول دور المثقفين و الثقافة في صناعة الدولة الحديثة و رأيه في حركة تمكين المرأة السعودية، ويختم الكاتب الباب بعرض مقال جدير لمحمد سعيد طيب لرئيس تحرير مجلة اليمامة وقتها د. فهد العرابي الحارثي بعنوان “نعم… المثقف السعودي شاهد ما شفش حاجة”! …
حكاية “العريضة المدنية” في عام 1990 هي محور الباب السابع، و ينسب الكاتب العريضة لأبوها الروحي الشيخ أحمد صلاح جمجوم، ثم يتطرق لمراحل صياغة العريضة مضمومنا و أهدافا و مطالبها العشرة و التي تتلخص في نظام أساسي للحكم و مجلس شورى منتخب و نظام للمناطق (المقاطعات)… كما يعرض الكاتب أيضا لقصة قيادة النساء للسيارات بحسب رواية منشورة للدكتورة عزيزة المانع في 2004، ويتيح للقاريء قراءة نص العريضة كاملا في ملحق الباب السابع…
الباب الثامن و التاسع من الأبواب القصيرة التي تتناول مواقف محمد طيب من أحداث محددة، يتناول الباب الثامن موقف محمد سعيد طيب من حرب تحرير الكويت و تداعياتها و ظروف كتابه (مثقفون و أمير)، و يعرض لآراء محمد سعيد طيب في الجو الإعلامي المقيّد في مرحلة التسعينات و نتائج عصر الطفرة ، و يختم الباب بمقولة جامعة له: “للأسف تبدو أمراضنا الاجتماعية و كأنها أمراض وراثية تنتقل من جيل لآخر، و كأن الجرثومة بداخلنا عصية لسبب أو لآخر على محاولات العلاج أو نواياه!”… في الباب التاسع يستعرض الكاتب بالتحليل مقالا منشورا لطيب عام 1992 في مجلة روز اليوسف عن قراءته للأنظمة الثلاثة في السعودية: النظام الأساسي للحكم و نظام الشورى و نظام المناطق…
يعود الباب العاشر ليعرض تجربة اعتقال جديدة لمحمد سعيد طيب لمدة 77 يوما في سجن الحائر سيء السمعة على إثر رسالة ساخرة وجهها لصديقه عضو مجلس الشورى في ذلك الوقت و تم تداولها حتى وصلت للملك فهد و الذي أمر باعتقاله بعد تدخل من بعض المشايخ…
في الباب الحادي عشر يتطرق الكاتب لتأثير حادثة سبتمبر 2001 على الجو السياسي في المملكة و مقابلة محمد سعيد طيب في قناة الجزيرة حول الحادثة… و يتناول الكاتب موضوع “خطاب الرؤية” في مطلع 2003 و أسبابه، و ما تلاه من صدور لبيان “الملكية الدستورية” و هي الدعوة المتكررة منذ الستينات، و ردود فعل النظام حول البيانات كوسيلة للمطالبة الشعبية، و يحكي الكتاب قصة اعتقال الطيب لمدة أسبوعين على خلفية لقائه لمجموعة الإصلاحيين بالرياض و قصة التعهد الذي رفض التوقيع عليه و مجموعة القيود المفروضة عليه وقتها و المثيرة للتأمل: عدم الظهور الإعلامي، عدم المشاركة في المناسبات الكبيرة أو تلبية دعوات التكريم… و الطريف أن طيب تفادى المواجهة المباشرة مع السلطات برغم استمرار مشاركته في البيانات و الدعوات الثقافية و فتح مجلسه الفكري في أيام مختلفة… و يتطرق الكاتب لعلاقة طيب مع المفكر محمد حسنين هيكل و أتوقف هنا عند عبارة واسى بها هيكل الإحباط الذي لمسه في طيب من تعثر مسيرة الإصلاح: “الإصلاح عملية تراكمية… حتى كلمات الخائفين تصنع التاريخ و تغيّر مجراه”… كما يحكي الكاتب أيضا تجربته في المنع من السفر لمدة 5 سنوات و رأيه في تجربة مركز الحوار الوطني و جمعية و هيئة حقوق الإنسان و الانتخابات البلدية و علاقته بالشيعة و التيارات الإسلامية و الليبرالية، و يتطرق أيضا لرؤيته لعهد الملك فهد ككل و العهد الحالي للملك عبد الله و الذي تميز -برأيه – بالكثير من الإيجابيات… يختتم الفصل الحادي عشر بمجموعة وثائق هامة لبيانات المرحلة كخطاب التضامن مع الإصلاحيين المعتقلين و الدعوة لقيادة المرأة للسيارة و الإصلاح الدستوري من جديد…
يلمس القاريء في الفصل الأخير عمق المقاوم محمد سعيد طيب: رسالته الإنسانية و ما يمثله له السجن والمنع من السفر، و أيضا مشروعه القومي العربي:”هكذا نحيا و هكذا نموت”… لم يقل محمد سعيد طيب في هذه المحاولة كل شيء –بحسب تصريحه- لكنه قال لنا ما يكفي حتى نعرف أن هناك أشياء لا يمكن عزلها حتى الموت، و أن هناك تواصلا ما بين أرواح المقاومين و أن ربيعا عربيا ينتظرنا و إن طال الخريف…
يبقى أن أقول أن قراءة الكتاب و إن أثارت في نفسي الكثير من المشاعر و التعاطف و الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية إلا أن شيئا لن يعادل شعوري بالتقصير بعد حوار قصير دار بيني و بين السجين الحر محمد سعيد طيب إثر قراءة الكتاب، ذكر لي فيه أن كلمة تقدير و دعم بسيطة هي أقصى ما يمكن أن يسعده بعد هذا المشوار، و أنا هنا أهديه كل الحب و التقدير -برغم منعه من تلبية دعوات تكريمه- لحمله بالنيابة عن وطن كامل همنا و طموحنا و الدعوة لحرياتنا و إن خسر في سبيل ذلك حريته …