المصدر : منتدى المحامين العرب
التعامل مع الأفكار لا يجيء باعتقال أصحابها
منذ أن استأذن “الأستاذ” في الانصراف ـ قبل أشهرـ لأسباب أوضحها في حينه. وبعد أن غابت مقالاته الصحفية عن قارئ متابع وعن مشارك في اتخاذ القرار، بات الجميع ـ هذا وذاك ـ يترقبون رأيا يدلي به هنا أو هناك.
حول ماجرى في السعودية حيال بعض الرموز الثقافية التي كانت قد شاركت بالتوقيع على بيانات ونداءات رأتها الحكومة “لاتحترم الوحدة الوطنية..” قال الأستاذ هيكل:
‘لقد استغربت مرتين لخبر اعتقال المفكر السعودي البارز ‘محمد سعيد الطيب’ ومجموعة من رفاقه، بدعوي أنهم كانوا يحضًٌرون لرفع عريضة إلي ولي العهد السعودي الأمير ‘عبدالله بن عبدالعزيز’ . والسبب الأول للاستغراب أن ‘سعيد الطيب’ كما عرفته وطني وقومي واضح الفكر، ملتزم في تصرفه بالشرعية والمعقولية معا.
والداعي الثاني إلي الاستغراب أن مثل ذلك التصرف يتناقض مع كثير سمعته بنفسي من الأمير ‘عبدالله’ عندما تفضل قبل سنتين ودعاني إلي فنجان قهوة في فندق ‘كلاريدج’ في لندن لحديث تواصل قرابة ثلاث ساعات، فقد بدا لي ولي العهد رجلا لديه نية الإصلاح السياسي في بلد طال انتظاره، وتعطل بادعاء الخصوصية الدينية، حتي كاد صبر الناس ينفد.
ومن الصعب قبول أن التعامل مع الأفكار يجيء باعتقال أصحابها، ثم يكون رد ذلك إلي ادعاء بمقاومة ضغوط أمريكية تتزايد، ورغم أنني مع كثيرين أتحفظ بشدة علي مقولات الإصلاح الأمريكي، إلا أنني أستغرب بعض ما أري وأسمع، لأن طلب الإصلاح الأمريكي المزعوم للمجتمعات العربية ليس أول ما يقدم إلي عدد من النظم العربية،. ثم يكون جوابه السمع والطاعة.
طلبوا منها قبلها أن تتصالح مع إسرائيل وتصالحت فرادي وجماعات، علنا وسرا، وطلبوا منها أن تقاتل في حرب مقدسة ضد الإلحاد والكفر الشيوعي في أفغانستان وحاربت وطلبوا منها تحريض العراق علي الثورة الإسلامية في إيران تنفيذا لسياستهم في ¬الاحتواء المزدوج للبلدين وحرضت، وطلبوا منها أن تتصرف في عالم الدول كل بلد ونفسه وتصرفت، وطلبوا منها أن تترك الشعب الفلسطيني لبطش السلاح الإسرائيلي وتركته، وطلبوا منها خصخصة المنشآت الاقتصادية الكبري وخصخصتها، وطلبوا منها أن ترفع الدعم الاجتماعي علي السلع الضرورية لكل مواطن عربي أطبقت عليه الأزمات ورفعت، وطلبوا منها أن تتوقف عن السعي لحل عربي لكارثة غزو العراق للكويت سنة 1990 وتوقفت، وطلبوا منها أن تشارك في تدمير بلد عربي يمكن أن يïحسب له حسابه في المشرق وشاركت، وطلبوا منها أن تدخل معهم لحصار ليبيا ودخلت، وطلبوا منها تجميد العمل العربي المشترك متمثلا في جامعة الدول العربية وجمدت، وطلبوا منها أن تفتح القواعد والتسهيلات العربية علي أراضيها لغزو العراق بهدف إسقاط النظام في بغداد وفتحت، ومشت الجيوش الأجنبية غازية من أرض عربية إلي أرض عربية بدون قانون، وبدون موافقة من مجتمع دولي عرف حتي من المفتشين الدوليين أن العراق ليس لديه أسلحة لا للدمار الشامل ولا لغيره.
لكنهم حين جاءوا يطلبون من النظم العربية التي لم يعد لديها ما تعطيه لأحد تغييرا في أوضاع السلطة السياسية في بلدانها، مع إتاحة فرصة أوسع لمشاركة ديمقراطية أشمل، تذكرت النظم فجأة أن هناك كلمة في قاموس اللغة العربية اسمها المستحيل، أي أن كل شيء كان مقبولا علي العين والرأس إلا عندما وصل الطلب إلي ما يمس فردية أو وحدانية أو عائلية السلطة السياسية في كل بلد عربي، وهنا فقط وقع الرفض، وكانت طريقة الرفض بالغة الغرابة لأنها بدت لغة وأسلوبا وتعبيرا وكأنها رفض لمستقبل تزعم هذه النظم أنه شاغلها!.
واعتقادي أن الولايات المتحدة غير جادة فيما تطلبه منا في شئون الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأزعم أن الولايات المتحدة الأمريكية وقفت ضد حق شعوبنا في هذه القيم دائما،. وساندت مظالم سياسية واجتماعية وإنسانية فاضحة وأحيانا فرضتها. وإذا كان بيننا من يريد أن يقول: إننا مع الإصلاح لأننا من الأصل أصحاب الدعوة إليه فمن الغريب أن يكون بين أساليب ردنا علي مشروعات أمريكية مغرضة هو اعتقال المنادين بالإصلاح دون غرض مثل ‘محمد سعيد الطيب’، وغيره من المفكرين وأساتذة الجامعات للتحقيق معهم أمنيا بوصفهم علي حد تعبير البيان الرسمي السعودي أشخاصا جري توقيفهم لأنهم وقعوا بيانات لا تخدم وحدة الوطن وهو تعبير أكثر غرابة!!
ومن سوء الحظ أنه ليس لدينا جميعا هذه اللحظة غير أن نتوجه إلي الأمير ‘عبدالله’ برجاء إعادة النظر في إجراءات الاعتقال والتحقيق لأن هناك وسائل أخري لمناقشة أو لمحاسبة الولايات المتحدة علي دعوتها المعبأة بالظنون والذنوب إلا أن ذلك لا يتأتي باعتقال المنادين بالإصلاح من الوطنيين، وبالتحقيق معهم في أفكارهم، خصوصا أن هذه الأفكار ومسئوليتها ليست مستجدة عليهم أو طارئة، فلأربع سنوات من نهاية الستينيات حتي أوائل السبعينيات كان ‘محمد سعيد الطيب’ رهن الاعتقال بسبب أفكاره، أي أنه محارب قديم في كتيبة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وليس مثل آخرين غيره في طاعة واشنطن وتحت أمرها، إلا عندما تصل المطالب الأمريكية إلي أبواب القصور وقرب مقاعد الحكم، ثم يكتشف البعض أنهم عزلوا أنفسهم قبل أن تحاصرهم القوة الطاغية للحليف والغالبة للصديق والحليف السابق، وتضغط عليهم، لتأخذ منهم ما بقي وهو ليس كثيرا ولا كبيرا!
محمد حسنين هيكل
التاريخ: 12/5/2004