إعادة اكتشاف محمد سعيد طيب . الأستاذ فؤاد نصر الله

المصدر : منبر الحوار و الإبداع

الأستاذ / فؤاد نصر الله

ونحن نتصفح كتاب جديد في نوعه ، فريد في بابه ، هو ” السجين 32 : أحلام محمد سعيد طيب ، وهزائمه ” . إنه كتاب يقدم صفحات من تاريخ شخصية قدر لها أن تشارك في كثير من الأحداث التي مرت ببلادنا ، وهي شخصية لها فكرها الخاص وتوجهها الفكري الذي ينم عن سعة أفق ورجاحة عقل يتسم به هذا الجيل من الشوامخ الذين يصعب تعويضهم بسهولة .

إعادة اكتشاف محمد سعيد طيب..
في أصابعه خيوط من حرير!

 

المكتبة كنز ثقافي لا ينضب ، والكتاب الثمين هو الذي يمد القاريء بزاد وفير ، ويمنحه المتعة المتجددة التي لا تنتهي ، والمعرفة التي تجعله قريبا من فهم الواقع وإدراك خباياه ومعرفة أسراره بشكل عميق . من هذا المنطلق فإن اختيارات الكتب للعرض على القاريء الكريم يجب أن تتسم بالشفافية والصدق وحسن العرض ، ذلك أن قراءة كتاب ما يحتاج إلى وقت محدد ، والوقت هو أيضا كنز لا يقدر بمال . قيل أن الفارق الجوهري بين الأمم المتقدمة وبين الأمم المتخلفة، والتي تراوح مكانها يتمثل في كيفية استثمار الوقت بصورة تفيد القاريء نفسه وتنعكس بالتالي على الوطن الذي يعيش فيه .
ونحن نتصفح كتاب جديد في نوعه ، فريد في بابه ، هو ” السجين 32 : أحلام محمد سعيد طيب ، وهزائمه ” . إنه كتاب يقدم صفحات من تاريخ شخصية قدر لها أن تشارك في كثير من الأحداث التي مرت ببلادنا ، وهي شخصية لها فكرها الخاص وتوجهها الفكري الذي ينم عن سعة أفق ورجاحة عقل يتسم به هذا الجيل من الشوامخ الذين يصعب تعويضهم بسهولة . ذلك أنهم مدرسة تحتذى في كيفية التوافق بين الأفكار التي يحملها الكاتب من جهة وبين طبيعة الواقع ونقائضه من جهة أخرى.
يوشك أن يكون هذا الكتاب الذي حرره أحمد عدنان بقدر كبير من التوازن والدقة محطات مضيئة في تاريخ حافل لواحد من رجالات الثقافة والفكر على مدار تاريخنا الحديث. لقد بذل أحمد عدنان في تحرير مادة الكتاب كل طاقته التي يمتلكها ليغوص في بحر بلا قرار حيث العمق والكثافة.
كل من قرأ لمحمد سعيد طيب يدرك أن تلك المهمة لم تكن سهلة ، وقد احتاجت إلى شحن معنوي واحتراف لا يعرف القلقلة أو التذبذب أو الحلول الوسطى.
في منطقة الحجاز تواجدت أسماء مؤثرة ومهمة ولها كشوفاتها الفكرية ونبضها الإنساني شديد الخصوصية . إنها أسماء لها تأثير كبير في المشهد الثقافي المشتبك بالسياسي آنذاك إلى حد كبير.
تمكن أحمد عدنان من استحضار الماضي بوعي الحاضر حيث ثبت العدسة على مناطق الريادة في منطقة الحجاز. ولعلها خدمة جليلة تلك التي يقدمها الكاتب في تعامله مع المادة التي يشتبك معها اختيارا وتصنيفا وتبويبا .
إن سيرة محمد سعيد طيب توفر لنا مادة ثرية مثبتة بالوثائق ، يمكننا من خلال قراءتها ومتابعتها والتدقيق فيها توضيح الصورة عبر الزوايا المتعددة ، وهو ما يجعل الكتاب يقترب من تخوم الاستكشاف الحقيقي لتاريخ البلاد ومثقفيه .
اتسمت تجربة هذا الرائد الكبير بالرغبة في الإصلاح والبحث في تراثنا العربي والإسلامي عن مناطق مضيئة توفر لنا أسباب الانطلاق والتحرر من كافة القيود التي تعطل مسيرة التحديث والتطور .
إنه مطلب قديم سعى الكاتب لتحقيقه عبر كتاباته واشتباكه الحميم مع قضايا عصره برؤية جمعت بين رصانة التراث وبين الآفاق غير النهائية للتطور العلمي التي تمد الدولة بماء الحياة.
لقد دعا إلى صحافة أكثر استقلالا ، وكتابات أشد موضوعية ، وقد جاء ذلك بأسلوب عربي قويم ، وبلغة صحيحة تشد القاريء وتجذبه إلى صفه. كما طالب بفصل السلطات تحقيقا للعدالة ، بشكل يدعو للإعجاب فقد كانت دعوة غريبة في زمنها.
لقد توقف محمد سعيد طيب أمام مطالب أصيلة وذات منحى إصلاحي جذري ، من أهمها الدعوة إلى إنشاء مجلس شورى منتخب ، ثم اتبع ذلك بالرغبة في قيام الملكية الدستورية كعتبة ضرورية للإصلاح.
حدث كل هذا قبل خمسين سنة بالتمام والكمال ، وهو ما يعطي له الريادة مع قلة من الرواد الذين انتهجوا نفس الطريق الصعب .لعل هذا ما يدفعنا للقول أن المملكة لم تكن منبتة الصلة على السياق العربي الداعي إلى إحداث يقظة حقيقية على الأرض لتكتمل مشروعات التحديث التي ترفع من قدر المواطن وقيمة الوطن.
لقد سرب محمد سعيد طيب خطابه بشكل سلس وهاديء وبلا تهويمات أو شكليات تصب في الفراغ حيث كانت عيناه ترقبان الواقع وتستلهمان مسالكه.
كان جيل الرواد من طيب وأنداده من مثقفي الحجاز ومثقفوه هم من واكبوا البدايات الأولى لتأسيس الدولة ، وهو جيل يحمد له اجتهاده وقدرته على مد البصر للمستقبل.
يمكننا قراءة كتاب ” السجين 32″ على خلفية المواضعات المؤسسية التي اقترنت بتلك الحقبة ، فقد عمل محمد سعيد طيب تحت رئاسة وزير المواصلات الأسبق ، وله مساهمات أدبية معروفة ، وقد أراد أن يكمل تعليمه العالي في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ما رفضه رئيسه وطالبه بالاستمرار في العمل ، والبقاء في موقعه كموظف ، يقرأ التعاميم ويوجه المكاتبات ، ويفتح المظاريف ، ويجيب من موقعه على المعاملات الرسمية في روتين مميت ، وهو الشيء الذي بدا جدارا قاسيا في وجه طموح طيب الذي كان ينعم بطموح الشباب ورغباته في علو الشأن والتعالي على عثرات الواقع وانكساراته.
منذ نهاية الخمسينيات وحتى آخر بيان وقعه محمد سعيد طيب سنة 2011 ، كان هناك فضاء للحركة بغية كسب أرض جديدة للفكر الجديد الذي دعا إليه الرجل بلا كلل أو ملل ، وبروح وثابة عظيمة.
التقليب في صفحات الكتاب يعطي مؤشرا حقيقيا ، وهو أنه مصنف رصين يجمع بين الذكريات الشخصية وطرفا من تاريخ الوطن في قالب حكائي لا ينفصم. ومن سمات هذا الكتاب اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة في مسيرة الكاتب الكبير ، وتوضيح مفاصل مهمة في الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية وإلى حد ما الاقتصادية في تاريخ البلاد.
وقد تعامل  أحمد عدنان مع المادة التي توفرت له بكثير من الاحتراف والقدرة على الإبداع ، فهو يمتحن الأحداث بإخضاعها لمنطق الصيرورة التاريخية كما يوظف ما لديه من وثائق لخدمة هدفه كباحث أصيل يدرك أهمية الجانب الوثائقي في مثل هذه الكتابات.
ولعل الإحالات التي أخضعها المحرر لخبرته أدت لقدر كبير من فهم جوانب العظمة في شخصية محمد سعيد طيب.
كان هذا الكاتب يمتلك حضورا قويا ولسانا مبينا وهو ما تلمسه الباحث في كتابه بصياغات أسلوبية تقترب من درجة الكمال .لقد جمع محمد سعيد طيب بين الأديب القدير والمصلح الموضوعي والمواطن الغيور على نهضة وطنه  ، وكلها لعمري تحتاج إلى جهد كبير لا يتحقق لكثيرين.
الأسئلة التي طرحها عدنان ثم الإجابات المستفيضة التي تتميز بالوضوح والقدرة على الحسم لطيب ، صبت في مصلحة كتاب من هذا النوع ، خاصة أن الصحافي القدير قد جمع شهادات ووثائق وبيانات عمقت من فهمنا لشخصية طيب.
لقد نجح عدنان كذلك في قدرته على الصياغة التي تنجح دائما في نقل الأفكار بشكل يدعو للتقدير ، فمحمد سعيد طيب قد مر بأفراح وأحزان ، وعبرت سماءه غيوم وسحب رمادية كثيفة قبل أن يعم الصفو كافة الأجواء  .
قضى محمد سعيد طيب أكثرمن خمس سنوات في الزنزانة رقم 32 ، وهو لا يكاد يعرف ما يجري خلف أسوار سجنه ، وقد شاركه عدد من الزملاء محنة السجن ، منهم باقر الشماسي ومحمد العلي وطاهر الفاسي وغيرهم .
إنها تجربة مريرة ما تنفك تلقي بظلالها على الروح المحلقة لأديب أراد أن يعانق الشمس في مكانها البعيد.
حين خرج محمد سعيد طيب إلى النور بعد حبسه الأول شرع في مشروعه عن ” تهامة ” ، وهو البحث الذي قدم فيه الكثير من الحقائق والمعلومات ، غير أنه لم يحتكر المشروع ووجه نظر شباب الباحثين لاستكمال مشروعه ومده بالجديد ، وهو بهذا المسلك يثبت أبوته لجيل كامل من الباحثين بدون عقد استعلاء أو عيوب نقص.
لقد حارب الرجل في كافة الجبهات ، وكان له موقف واضح من مدعي الثقافة ممن لديهم بريق خداع ، هؤلاء الذين ينتظرون المناصب ليكملوا نقائصهم. هنا كانت حربه ضدهم بلا هوادة ولا لحظة راحة.
لقد تعرف محمد سعيد طيب على عدد كبير من الأدباء المتحققين مثل الأديب الكبير عبدالله عبدالجبار ، وله معه مواقف مشهودة كما خالط طيب كبار القوم من ملوك ووزراء وأمراء ووجهاء ، وكانت له محاورات معهم ، تكشف عن جوانب خفية من سلوكهم . حكايات تنضح بالعذوبة والصدق والإخلاص.
محمد سعيد طيب في هذا الكتاب إنسان من هذا الوطن ، ليس متعاليا عن واقعه ولا راضخا لسطوة أصحاب النفوذ فيه ، فهو يدرك قيمة الأديب الحق لذا كانت قصصه وذكرياته تحمل هذا الملمح البديع من الاعتزاز بالنفس والقدرة على التعالي على انكساراته.
ستسمع وأنت تتصفح الكتاب صليل القيود ، وهسهسات الريح ، وقعقعات العجلات السائرة في الطرقات . يكاد الصحافي الموهوب يسمعك أنين صدر كاتب تعرض لمحنة السجن لكنه خرج من وراء القضبان أكثر قدرة على فهم الواقع والوعي بمسارات الحياة .
هذه فضيلة هذا الكاتب الذي عاش يحلم بأفق للحرية يتسع ليشمل أحلامه التي لا تحد. رجل أنجبته أرضنا الكريمة فكانت كل كتاباته من أجل النهوض بها لتأخذ مكانها المناسب تحت الشمس.
لم تتح الفرصة لمحمد سعيد طيب كي يتمرغ في النعمة ، فقد اختار موقفا جعله دائما في طليعة المفروض عليهم المنع والتوقيف والمراقبة ، وهي أشياء ربما عرقلت مشروعاته لكنها لم تحد من تطلعاته المشروعة في تحديث الدولة والارتقاء بالشعب الذي انحاز إليه بلا مواربة.
لو أنك من الجيل التالي له أو من أجيال شابة تعيش اليوم مشروعها الخاص فسوف تتحقق من كونك ترغب في أن تشد على يدي هذا الرجل الذي وهب خلاصة عمره لخدمة أجيال قادمة ستتمكن مع مرور الأزمنة من قطف ثمار الشجرة التي زرعها في تربة كانت قاحلة منذ سنوات بعيدة ، كي تصبح مخضرة ، وارفة ، تنشر الظل في كل مكان.
ولا شك أن المصنف ضم اقترابا حثيثا من شخصيات مؤثرة في وقتها ، فألقى الضوء على عطاءاتهم من خلال تجاربهم التي عاصرت الدعوة إلى مساندة حركة التحديث والتطوير بالسعودية ، أمثال :الوزير أحمد زكي يماني ، الوزير السفير هشام ناظر ، الوزير د. محمد عبده يماني ، الوزير محمد عمر توفيق، الوزير أحمد صلاح جمجوم ، الوزير جميل الحجيلان ، الوزير محمد أبا الخيل، ، الوزير غازي القصيبي، الوزير فايز بدر، الشيخ محمد بن جبير، المربّي محمد فِدا ، والناشران هشام ومحمد علي حافظ .
ويجدر الإشارة إلى أن ” الثلاثية ” كانت أقرب إلى مجلس الأصدقاء،وكان لها كذلك دور كبير في إيصال وجهة نظره للمؤسسات المهتمة كما أن فترة عمله في شركة ” تهامة ” والتي أدارها نحو ربع قرن (1975  1998) قد وجدت دعما  ملحوظا من المسؤولين السعوديين خاصة أن المشروع خص قضيتي الثقافة والنشر .
من مزايا الكتاب تلك الشهادات التي جاءت لتكمل المادة المعرفية التي رصدها طيب ، فثمة شهادات خاصة عن مراحل سياسية تتصف لدى الكثيرين بالضبابية ، هنا تجلوها شهادات واقعية ، منها شهادة الشاعر محمد العلي وشهادة تركي الحمد وشهادة الكاتب عبدالله أبو السمح.
كما توجد بعض الملاحق والتعريفات التي تقدّم للقارئ مادة معلوماتية ذات قيمة كبيرة حول النخبة السياسية والثقافية بالمملكة في مسارات زمنية متتالية .
ولابد من الإشارة إلى تقديم الكتاب الذي جاء بقلم الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل حين يقول : ” الكتب أنواع وأصناف وألوان بينها ما يعرض آراء ومعارف أو تجارب صاحبه وبينها ما يركز على موضوع معين يجمع فيه معارف أو تجارب آخرين وبينها ما ينبئ بخبر أو رأي أو اجتهاد. لكن هذا الكتاب نوع وصنف ولون آخر مختلف كل الاختلاف لأنه يعرض على صفحاته شخصية محمد سعيد طيب ، هو نفسه وطبعه ومزاجه ويعرض ذلك كله من دون أن يتظاهر أو يتكلف أو يفتعل” .
ويواصل هيكل تقديمه بقوله : ” وكذلك فإن قارئ هذا الكتاب يشعر أنه على موعد مع رجل يلقاه ويتعرف عليه ويألفه ويصادقه ويطمئن إليه ومعه ويستطيع أن يلمح بين أصابعه خيوطا من الحرير تنسج علاقاته مع الزمن والبشر مهما تغيرت أحواله وأحوالهم أو مهما تقاربت أو تباعدت المسافات بينهم ” .
ويقدم هيكل صديقه بعبارات تحمل معنى الندية والاحترام ، معا ، بقوله : ” ما زلت كلما التقيت طيب أحس بأننا معاً على مقعدين متجاورين فوق السحاب ” .
ويجدر الإشارة إلى ما قاله طيب في حواره مع مؤلف الكتاب عن الوضع الراهن بالمملكة حيث يصف عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز ، بقوله : “يتميز الملك عبدالله بخطاب أكثر قرباً للمواطنين مع الاهتمام بالبعد الإنساني . في عهده نلاحظ توفر نوايا الإصلاح، الاهتمام بالمرأة ، المحاولات الجادة لإصلاح التعليم ، وتطوير القضاء ، الحرص على تجديد الخطاب الديني. ونحن يحدونا كبير الأمل في الأيام القادمة”.
إنه الأمل الذي عاش عليه محمد سعيد طيب ، وحاول أن يحوله من حلم إلى حقيقة في دعواته وكتاباته واجتهاداته التي لم تتوقف قط.
الكتاب صادر عن المركز الثقافي العربي في 741 صفحة ، عبر 12 باباً ، وقد كتب خاتمته الشيخ أحمد زكي يماني وزير النفط الأسبق .
وهو بكل المقاييس أحد الكتب المهمة التي تثري المكتبة العربية بمنجز رفيع للسيرة الذاتية مشتبك مع تاريخ الدولة وأحداث الأمة.