المصدر : جريدة الشرق
ثمة فيلم سينمائي قديم من بطولة النجم الأمريكي مايكل دوجلاس، يمثل فيه دور رئيس أرمل للولايات المتحدة، ويحظى بشعبية جارفة، حتى يقع في حب ناشطة سياسية، ويقرر الارتباط بها.
هنا تشحذ صحف المعارضة أنيابها بحثاً عن ثغرة في تلك العلاقة؛ كي تفترس شعبية الرجل الانتخابية، وتمهد لصعود منافسيه، ولأن الزوجة المرتقبة ناشطة سياسية ومدافعة عن البيئة، فقد وجدت الصحف صورة قديمة لها في إحدى المظاهرات وهي تقوم بإحراق العلم الأمريكي! وبالطبع، تم إبراز الصورة على صدر الصفحات الأولى في اليوم التالي مع عناوين من طراز «سيدة البيت الأبيض تتسلّى بإحراق علم البلاد».
كان موقفاً محرجاً بالفعل، لكن رد الرئيس وقتها كان بليغاً ومؤثراً جداً؛ إذ خطب في الجماهير قائلاً «إن القيم العظيمة التي يحملها المجتمع الأمريكي ويحميها تتمثل في العدالة والحرية والكرامة، والدولة تدافع عن حرية الناس في انتقاد ما يجري في بلادهم، حتى لو عبروا عن ذلك الاحتجاج بإحراق الشعار الذي يرون أن الحكومة لا تحميه. إن القيم الأمريكية الحقيقية تتمثل في حماية حق المواطن في التعبير عن رأيه، لا في حماية العلم».
أعترف أنني لا أنقل النص نقلاً أميناً، بل ما علق منه في الذاكرة، ورغم أن الفيلم إجمالاً لا يعدّ من روائع السينما، ولا يحظى بتصنيف فوق المتوسط، إلا أن ذلك المشهد كان من المشاهد التي تركت أثراً عميقاً في نفسي، وأعادت تشكيل فهمي لمعنى الوطنية بشكل أعمق بكثير.
فليس بالضرورة أن يكون التعبير عن حب الوطن بالشعارات الطنانة، والقصائد الباذخة، والأغاني والمهرجانات.
ذلك وجه من الحب، وإن كان صادقاً، لا يخلو من السطحية.
ويستطيع أن يدعيه أي أحد بلا جهد.
لكن الوجه الأعمق والأصعب للحب هو ما يمارسه الفرد ضد تيار المجتمع، عندما ينبه ويبين ما يراه من أخطاء ربما لا يراها الآخرون، أو ربما يرونها، لكنهم يغضون الطرف عنها رغبة في تفادي تحمل ثمن إصلاحها، أو لانتفاع بعضهم بها على حساب الصالح العام.
هنا يكون هذا النمط من الحرص والتعبير عن الحب مزعجاً ومؤلماً، لكنه مفيد وضروري في الوقت ذاته.
فممارسة النقد التي تسلط الضوء على مكامن الخلل، وتعرّي الأخطاء تفتح آفاقاً واسعة للإصلاح والتطوير، وتبدد عتمة الجهل والفساد، بل إن النقد يمنح المجتمع فرصة التخلص من أدوائه، والتطهر من أدرانه بشكل تلقائي طبيعي لا خلل فيه ولا اضطراب، ولا يجعله مضطراً لانتظار ربيع قد يأتي حين يأتي عاصفاً ومدمراً. المجتمعات القويمة هي تلك التي توفر سقفاً قانونياً وأخلاقياً يحمي النقد ويشجع عليه، يتقبله بكل رحابة وسعة صدر، سواء كان صريحاً مباشراً أو ممراً عبر وسائل إبداعية شعراً وسرداً وسينما وفنون بصرية وسمعية؛ لأنها تدرك فائدة ضخ حيوية التساؤل والتمحيص في دفع عجلة الرقي وضبط كوابح الشطط.
وبقدر ما يكون المجتمع منفتحاً ومتسامحاً مع ناقديه، يكون أكثر تلاحماً، ويكون أفراده أكثر تألقاً وإبداعا في المجالات كافة. وحدها المجتمعات المريضة التي تبدي حساسية مفرطة تجاه النقد.
حساسية تتحول لالتهابات حادّة، واحتقانات وتورمات تستدعي تدخلاً طارئاً في كل مرة يصاب فيها المجتمع بمؤثر النقد، فتثور ثائرته تجاه سطور في بيان، أو شطر بيت في قصيدة، أو عبارة في مقال. ترتفع حراب التشكيك والتخوين والإقصاء، تستهلك طاقة المجتمع الفكرية والإبداعية، لتحولها لطاقة سلبية تأكل نسيجه وتدمر خلاياه.
ثمة أدواء يصفها الأطباء بأمراض المناعة الذاتية، تتميز هذه الأمراض بتمرد جهاز المناعة في الجسم، وتحوله لمهاجمة أعضاء الجسد وأنسجته، باعتبارها أجراماً معادية، فيشرع في الفتك بها حتى يهلكها، والعلاج المتوفر لتلك العلة هو إعطاء المريض جرعات عالية من مثبطات المناعة؛ كي يستطيع ممارسة حياته، لكن جهازه المناعي يفقد قدرته على الدفاع عن الجسم ضد أعدائه الحقيقيين، ويصبح فريسة سهلة لأي عدوى من جرثومة خارجية.
ولعلنا الآن نتساءل، تُرى ما مدى كفاءة جهاز مجتمعنا المناعي؟ وهل نحن في وضع صحي سليم يوجه أسلحته الوقائية في الاتجاه الصحيح؟ يمكنك معرفة الإجابة بإجراء بسيط، راقب مصير كل من انتقد خللاً بجرأة وإخلاص، وانظر هل صُنّف كخائن أم كبطل؟ عندها ستعرف الإجابة!