كيف يتعامل محمد سعيد طيب مع الحمقى؟!. الأستاذ عبدالله حميد الدين

المصدر : جريدة إيلاف

إيلاف – الأستاذ / عبدالله حميد الدين

قبل قراءة الكتاب قرأت التوقيع والخاتمة أكثر من مرة. في محاولة امتزاج بالحالة العاطفية والنفسية التي كتبت هذه الكلمات، قبل أن أخوض في التفاصيل التي شكلت هذه العواطف. وشعرت أن التوقيع على وجه التحديد فيه مشاعر مختلطة. تتنقل بين الواقعية والتشاؤم والأمل والحلم والبراغامتية والمثالية في أقل من صفحة. قبل قراءة الكتاب لم أشعر بعمق تلك المفارقات.

 

ولكن بعد قراءته شعرت وكأنني أنتقل من فلك إلى آخر. لحظة ينثيك عن العمل، ويندم على ما مضى، لحظة أخرى يدفعك دفعاً ويؤكد لك أن ليس أحسن من هذا. وكأنه يرسم الحياة كما هي بلا ادعاء. ولكن بعد قراءتي للكتاب بأيام، كتب محمد سعيد طيّب رسالة إلى شباب 23 فبراير – الذين رفعوا مقترحات إصلاحية إلى القيادة السياسية – نشرت في صحيفة الأخبار، شعرت وأنا أقرأها أنها تشرح بعداً آخر من أبعاد توقيع الطيب. ومن حقها أن تكون توقيعاً آخر بجنب التوقيع الموجود الآن. في تلك الرسالة تقرأ الأمل الصرف. وكأن الطيب وجد ملامح الفصول التالية من حياته. فصول ستحكي إصلاحاً وبناءا وعلى اكتاف جيل جديد. وشعرت أن سبب المفارقات في توقيعه الأول هي في عبارته المشحونة بالعواطف والمحبة والأمل: “لقد انتظرناكم طويلاً”. ومن يقرأ كتابه يجد هذا الانتظار ماثلاً أمامه بصمت. كلما مضيت تسأل وأين الجيل الجديد؟ أين الأبطال الجدد؟ لعله في التوقيع كان يخاطب أفراداً مميزين. وهو يعلم أن الإصلاح لا يمكن أن يأتي على يد أفراد. وإنما لا بد من أن يقوم على يد جماعات منظمة وذات برامج لها عمق اجتماعي. وهذا ما لم يتأت للحركة الإصلاحية السابقة. ولذلك فمع كافة المكتسبات التي لدينا تقرأ الكتاب وترى أن المطالب التي كان يتم الحديث عنها في الخمسينات لا زالت هي المطالب التي يطالب بها المجتمع السعودي اليوم.
حياة السجن ليست سهلة. ولا يوجد سجين يدعو لها. ولكن في الوقت نفسه تجد أنه لا يوجد وطني دخل السجن إلا ويقول لك إنه شهد ولادة جديدة فيها. صحيح إنها ولادة قسرية ولكنها تبقى ولادة. أشبه ما تكون بموقف امراة تنجب طفلاً من اغتصاب. هو طفلها الذي تحبه، ولكنه ثمرة ألم وقهر ومهانة. وهكذا شعرت وأنا أقرأ حديث الطيب عن حياته وانطباعاته عن السجن.
أثار الكتاب في نفسي الكثير من القضايا. بعضها شخصي، لا علاقة لها بحياة الطيب. وإنما أثار حنيناً إلى جيل مضى وجيل لا زال باقياً، وأشعرني بحزن شديد أن لم يكونوا هؤلاء جزء من المخيال الشخصي. شعرت أني متطفل على ذاكرة لم أكن منها، الهوية الوطنية تقوم على مثل هذا المخيال.
وجدت نفسي أقرأ لجزء من التاريخ السياسي للسعودية. مركز الكتاب هو أبي الشيماء، ولكن حوله وقبله تجد العديد من الشخصيات السعودية من مناطق مختلفة في حبكة أظهرتهم أبناء وطن واحد وقضية واحدة وإن كان كل منهم يعمل بمفرده ولقضيته ومن خلال منطقته وشبكته. ولكنك تشعر أن ذلك العمل الفردي لم يكن إلا لصعوبة اللقاء، وصعوبة التنظيم، ولضيق مساحات العمل السياسي المفتوح.
من القضايا الشخصية كحديثه الحزين عن والدته ومعاناتها، وإلى حديثه المليء بالحب عن زوجته أم الشيماء، وعن أبنائه، وحارته، ومواقف طفولته، وصداقته، إلى أم كلثوم، وعشقه لجمال عبدالناصر. ولعل أكثر الأمور الشخصية التي أذهلتني هي عودته إلى الجامعة وعمره 52سنة، ليتعلم القانون أو على حد تعبير أستاذه ليتعلم كيف يتعامل مع الحمقى. حقاً إنه رجل فريد! أقول من تلك الأمور الشخصية إلى التحولات الاجتماعية في القضايا اليومية والعفوية مثل التفاعل بين الرجال والنساء، ومثل وجود دروس موسيقى في المدرسة. فإلى المواقف السياسية الكبرى الذي شكلت مسار السعودية: مطالب إصلاحية (الديمقراطية والحريات)، محاولات انقلابية (حركة الضباط في آخر الستينات)، صراعات سياسية (سعود وفيصل، فيصل والناصريين والقوميين بل وحزب شيوعي ملكي!)، منافسات بين الأقاليم (انتقال العاصمة من مكة المكرمة إلى الرباض). وما رافق كل ذلك وغيره الكثير من حراك اجتماعي،  وجدل فكري، وإقصاء، وحرمان، ثم خيانات، وسجون، وخيانات، وتضحيات، ومواقف مشرفة، وتعذيب، بل وموت تحت التعذيب. ثم ينقلك من كل هذا إلى ركود بسبب الطفرة وانشغال الجميع بالمال. وفي خلال هذه الفترة يشكي لك من مثقفي تلك المرحلة وقضاياهم التافهة. ثم يعود لينقلك إلى حراك جديد وتحديات كبيرة بعد غزو الكويت. ثم ركود جديد ثم حراك بعد سبتمبر. ولا نعلم ما سيكتب عن هذه المرحلة التي نحن فيها. وكيف ستكون مذكرات الناشطين. هل سيتحدثون عن قسوة وسجن ومنع من السفر، أم عن نشاط في مساحة من الحريات نحو تطوير التكوين السياسي للمملكة؟
وليسمح لي العزيز أحمد عدنان بالاختلاف معه عندما يصف الماضي بأنه ليس كله عارا. نعم الماضي بمجمله ليس عاراً، ولكن بعض ما حصل فيه كان عاراً ومخجلاً بكل المعايير. ولكنه من العار الذي يجب كشفه، ويحرم ستره، بل عار على عار أن لا يتم الحديث عنه. فعار تعذيب أو قمع الوطنيين لا يمكن محوه إلا بالحديث عنه والقطع بأنه لن يتم تكراره. وليس أشد مرارة على من عذب أو شهد تعذيباً وقتلاً من السكوت عن كل ذلك. ولا يخيفه اكثر من ان لا يجد الضمانات بأن لا يتكرر هذا لمن بعده من الأجيال.
كتاب (السجين 32: أحلام محمد سعيد طيب وهزائمه) لأحمد عدنان يضعك في عمق العلاقات المعقدة في المجتمع السعودي. فتجد الأمراء والوزراء والقضاة والضباط، والجنود، والمعارضين، والأعيان، والانتهازيين، والمتخاذلين، وغيرهم.. تجدهم في شبكة معقدة من العلاقات التي لا يمكن وصفها بأنها كذا أو مذا. ليست خصومة دائماً، ولا صداقة دائماً، ولا إبعاد دائماً، ولا تأييد دائماً، ولا معارضة دائماً، ولا قمع دائماً… وتجد أنه لا يمكن استنباط الفعل من مجرد معرفة الدور الاجتماعي. فالضابط لا يعني أنه سيء، حتى وإن كان يأخذك للمعتقل، والمعارض ليس دائماً معارض حتى وهو يوقع على اعترافاته. وهذا التعقيد حري بنا أن نتأمل فيه كثيراً، لأنه يعكس واقعية العلاقات الاجتماعية في خضم الحياة السياسية. وهي واقعية يتم تبسيطها من كثير من الشباب الناشطين اليوم، فيضعون الأشخاص في قوالب ويحكمون عليهم بأحكام أبدية أزلية لا تتغير. الحياة رمادية. والعلاقات الاجتماعية متعددة المستويات والأبعاد. وحياة الطيب جسدت هذا بشكل تام.
المقالات الملحقة بالكتاب، سواء تلك لأبي الشيماء أو لأحمد عدنان أو لبعض الشخصيات أضافات للكتاب بعداً توضيحياً توثيقياً مهماً. حيث الكثير منها في طي النسيان، بالرغم من أهميتها في توضيح صورة المرحلة. ولكن أيضاً على القاري الالتفات إلى حواشي الكتاب المهمة، والتي جمعت معلومات لا غنى عنها لمن يريد فهم التاريخ السياسي السعودي. وفي أحد تلك الحواشي كلمة مهمة للملك (الأمير) فهد رحمه الله في 1975 في سوريا. فوصف المعتقلين السياسيين في السعودية بأنهم وطنييون وأكد بأن الخلاف بين السلطة وبينهم هي في الأولويات معزياً الخلاف إلى عدم وجود أولئك الوطنيين في السلطة. وأعتقد أن هذه الكلمة أتت لتعذر السلطة في تعاملها مع المعتقلين، ولكنها أيضاً ذكرت الحل لوجود اولئك المعارضين الوطنيين وهو أن يتم إشراكهم في السلطة بحيث يقتربون من الواقع الذي يعيشه صاحب السلطة يومياً، وتعقد الاعتبارات التي يتعامل معها. كما إنها تشير إلى حل آخر وهو ضرورة فتح باب الحوار السياسي على مصراعيه بحيث تتقارب الرؤى بين السلطة وبين الشعب مما يقلل من مساحات سوء الفهم ويفتح الباب للتطوير الواقع السياسي والاجتماعي للوطن، والذي هو مطلب الجميع سلطة وشعب