المصدر : جريدة الشروق
بقلم : الأستاذ وائل قنديل
أخطر ما تبتلى به الأوطان أن يتولى أمرها ويتحدث باسمها من لا يعرفون قدرها.
كنا حوالى مائتى فرد فى قاعة أحد الفنادق الفاخرة.. سياسيون ومسئولون سابقون وسفراء ومثقفون وفنانون وصحفيون.. وكانت المناسبة الاحتفاء بالناشط والمثقف السعودى الكبير محمد سعيد طيب الذى يعود إلى مصر بعد خمس سنوات منع خلالها من السفر فى بلده.
تحدث المحتفى به متحديا الحضور أن يكون هناك بينهم من يحب مصر مثله، ثم انطلق العازفون والمغنون يقدمون رائعة أم كلثوم ورياض السنباطى وحافظ إبراهيم الخالدة «مصر التى فى خاطرى» وهنا ران الصمت على القاعة وكأن الجميع يتعبدون فى محراب، لمعت العيون بدمع واحد، لا فرق بين ما تراه فى عينى خالد جمال عبدالناصر، وعينى مصطفى الفقى.
كنت أتوسط الفنانين الرائعين حمدى أحمد ورياض الخولى وإلى جوارنا عبدالحليم قنديل وجمال فهمى، وأمامنا السفير السعودى هشام ناظر والدكتور مصطفى الفقى ونقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد.. الجميع يغنون مع تصاعد الموسيقى وكأنهم جنود مستجدون يستمعون إلى النشيد الوطنى فتلمع العيون بالشجن، حتى يخيل لك أنهم يكتشفون الأغنية لأول مرة، أو يعيدون اكتشاف مصر الكبيرة العظيمة الراقدة تحت ركام من الفقر والمرض والسياسات سيئة السمعة.
وتسمع نقرات رياض الخولى وحمدى أحمد على المائدة وهما يرددان كلمات الأغنية بخشوع فتشعر أنهما محاربان قديمان يستحضران ذكريات معركة خالدة.
أو لعلها كانت نوبة حنين إلى مصر كما ينبغى لها أن يكون، كبيرة، فتية، شامخة، مرفوعة الرأس، متدفقة بالحيوية والعطاء، لا تتحسس رأسها طوال الوقت، ولا تنشغل بالنظر فى المرآة طويلا ذعرا من التجاعيد وعلامات الترهل.
ويدهشك فى وسط هذه الأجواء المسكونة بالشجن أن الحضور من الأشقاء العرب هم الأكثر انفعالا بالغناء لمصر «التى فى خاطرهم وفى فمهم» على نحو تصبح أمامه كل دعاوى وادعاءات أن هناك من يطمح لخطف دور مصر أو اقتسامه معها مجرد نكتة سخيفة، تلوكها ألسنة الصغار من هنا وهناك، ليس إيمانا بقيمة مصر وحجمها، وليس دفاعا عن مكانها ومكانتها، بل دفاع عن شرعية ــ أو بالأحرى لا شرعية ــ وجود هؤلاء على رأس منابر إعلامية كانت مهمة، وتحولت معهم إلى مجموعة من البوتيكات الخاصة، كل ما يشغلهم هو أن يحققوا من خلالها الحد الأقصى من الأرباح الشخصية فى الفترة التى شغلوا خلالها هذه الأماكن.
أدركت أن العرب والمصريين يريدون مصر دائما كبيرة وعزيزة، وإن علا الصراخ من هنا أو هناك ضد ممارساتها فهذا مبعثه أن أحدا لا يتصورها صغيرة وضعيفة، أو تتصرف مثل الصغار والضعفاء.. إنه غضب المحبين الحقيقيين وهو أنبل وأرقى من رضا النصابين المحترفين.